الحرص الزائد من الآباء يعوق استقلالية الأبناء 30-10-2023

رغم اتفاق معظم الآباء على ضرورة الاستفادة الكبيرة للأطفال من الفرص المتاحة لهم ليكونوا مستقلين، فإنهم رغماً عنهم - ربما بسبب الخوف والحرص الشديدين عليهم - يمارسون عليهم ضغوطاً معينة تحدّ من استقلاليتهم واعتمادهم على أنفسهم، وتعلمهم التواكل وعدم المقدرة على التصرف وأخذ القرارات في المواقف المختلفة.

جاء ذلك في أحدث استطلاع حول صحة الأطفال أجري في «مستشفى الأطفال بجامعة ميتشغان (University of Michigan Children›s Hospital)» بالولايات المتحدة الأميركية، ونُشر في منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.

الأبوة «المروحية»

قال الباحثون إن المتابعة الدقيقة للأطفال، تعرف باسم «الأبوة المروحية (helicopter parenting)». والتسمية مأخوذة من الطائرة المروحية؛ لأن المروحة أعلى الطائرة تحوم فوقها بشكل كامل، وهو ما يمكن وصفه باللغة الدارجة: «فوق رأسه». وهي تعبيرعن المراقبة المستمرة والدقيقة للتصرفات بسبب المخاوف التي يمكن أن يتعرض لها الأطفال، خصوصاً في الطفولة المتأخرة وبداية المراهقة؛ حيث يبدأ الأطفال في السفر بمفردهم في رحلات بعيدة عن العائلة والانخراط في أنشطة يمكن أن تعرضهم للأذى الجسدي الطفيف مثل قيادة الدراجات والرياضات العنيفة... وغيرها.

أظهر الاستطلاع وجود فجوة كبيرة بين الاقتناع بالنظريات حول استقلالية الأبناء وتطبيقها على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال؛ كانت هناك فئة كبيرة من الآباء لا يوافقون على أمر معين يخص أطفالهم دون الإشراف الكامل على التفاصيل المتعلقة به، وهو الأمر الذي يعدّ سلوكاً خاطئاً من الآباء؛ لأنهم يضيعون على أطفالهم فرصة تعلم مهارات حل المشكلات بمفردهم وتنمية الاستقلالية لديهم، مما يمثل نوعاً من أنواع الإعاقة لاحقاً؛ لعدم قدرة الطفل على حل أبسط المشكلات عندما يصبح مراهقاً أو لاحقاً في البلوغ.

وأوضح الاستطلاع أن العامل الأول الذي يشغل بال الآباء، ويجعلهم يمنحون أطفالهم حرية الحركة، هو عامل «الأمان (safety)»... حيث كانت هناك نسبة من الآباء بلغت 17 في المائة لم يسمحوا لأطفالهم بحرية حركة كافية؛ لأن المنطقة السكنية التي يعيشون فيها ليست آمنة على الأطفال. وفي المقابل، كانت هناك نسبة من الآباء بلغت نحو 60 في المائة سمحوا لأطفالهم الذين ما زالوا تحت عمر المدرسة (من سنتين إلى 5 سنوات) بالبقاء بمفردهم في المنزل لمدة تراوحت بين نصف ساعة وساعة كاملة ما داموا في منطقة آمنة وتتمتع بحسن الجوار والبعد عن المشكلات بعد أخذ إجراءات الأمان المعتادة مثل غلق مواقد الغاز... وما إلى ذلك.

ذكر نصف الآباء أنهم سمحوا لأطفالهم بالانفصال عنهم في المتاجر المختلفة، مثل أسواق البقالة، للعثور على سلعة معينة في ممر آخر بالمتجر، بينما كانت هناك نسبة بسيطة من الآباء، وهي أقل من نصف العينة، تركوا أبناءهم بمفردهم في السيارة بينما كانوا يؤدون مهمة سريعة، وسمح آخرون لأطفالهم بالمشي بمفردهم، أو ركوب الدراجة إلى منزل أحد الأصدقاء، أو اللعب في الحديقة مع صديق.

قلق مبالغ فيه

أوضح الباحثون أن القلق على الأطفال أمر طبيعي ولا يجب أن يشعر الآباء بالذنب نتيجة لذلك، ولكن القلق المبالغ فيه يحدّ من ملكات الطفل وحريته واعتماده على الذات، وأرجع الباحثون هذا السلوك إلى المخاوف الكثيرة التي تنتاب الآباء بسبب التقارير الإعلامية المختلفة عن الحوادث التي يمكن أن يتعرض لها الأطفال، مثل الخطف والاعتداء الجنسي، وفي بعض الأحيان التعرض للقتل. ويمكن للآباء التخلص من هذه المخاوف بالتدريج عن طريق السماح بخطوات صغيرة لطفلهم، مثل قضاء بعض الوقت مع صديق في مكان عام بمراقبة الوالدين.

بخلاف الأمان؛ كانت هناك أسباب أخرى لرفض الآباء حرية حركة الأبناء؛ أهمها الاعتقاد أن الابن غير مهيأ لأداء مهمة معينة بسبب صغر العمر وقلة الخبرات. وذكرت نسبة من الآباء بلغت 10 في المائة أنهم يخشون من نظرة الآخرين إليهم بوصفهم آباء سيئين ولا يهتمون بأمر أولادهم إذا تركوهم بمفردهم في المنزل أو بعيداً منهم في الحديقة؛ حيث تعرض 13 في المائة منهم بالفعل لانتقادات لعدم الإشراف على أطفالهم بشكل كافٍ. وذكرت نسبة أكثر من نصف الآباء أن الأطفال غير الخاضعين للرقابة يسببون مشكلات متعددة تصعب السيطرة عليها.

ذكر الاستطلاع أن نسبة من الآباء أقل من 50 في المائة هم فقط الذين تركوا لأطفالهم الحرية في فعل أشياء مناسبة للفترة العمرية لهم (من 5 إلى 8 سنوات) مثل التحدث مع الطبيب أو الممرضة خلال توقيع الكشف عليهم وأخذ التاريخ المرضى، والسماح للطفل بشرح حالته والتعبير عن ألمه بالألفاظ الخاصة به من دون التدخل منهم، وأيضاً السماح للطفل باتخاذ قرار بشأن اختيار الملابس، أو التصرف في أموال الهدايا، بجانب حرية التحدث إلى بالغين غير مألوفين للطفل مثل النادل في مطعم معين، وتحضير وجبة خفيفة خاصة بهم.

نصح الباحثون الآباء بضرورة استغلال فترة المدرسة الابتدائية؛ لأنها تُعدّ أهم مرحلة لتطوير الاستقلالية لدى الطفل؛ لأنه ينفصل عن مجتمع الوالدين لأول مرة، ويجب أن يدرك الآباء أن التحول من الاعتمادية الكاملة على الأم والأب إلى الاعتماد على النفس يحدث بالتدريج وليس حينما يبلغ الطفل عمراً معيناً؛ لأن الاستقلالية هي تراكم خبرات تُكتسب عبر التعلم من الأخطاء والتجارب وتفهم عواقب الاختيارات المختلفة.

وأكدوا على الدور المهم للآباء في المراقبة الواعية لسلوك الأبناء من دون أن يشعروا بسيطرتهم على حياتهم؛ لأن ذلك يعزز ثقة الطفل بنفسه.

* استشاري طب الأطفالhttps://aawsat.com/